الاسناد: متفق عليه
الدرجة: صحيح
المصدر: 1- نزهة المتقين شرح رياض الصالحين، نشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الرابعة عشر، 1407ه 1987م. 2- شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين، نشر: دار الوطن للنشر، الرياض، الطبعة: 1426ه. 3- كنوز رياض الصالحين، نشر: دار كنوز إشبيليا، الطبعة: الأولى، 1430ه 2009م. 4- بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، للهلالي، نشر: دار ابن الجوزي. 5- المعجم الوسيط، نشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية. 6- صحيح البخاري، نشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: الأولى، 1422ه. 7- صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
التفسير
هذا حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ، في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة. وكانت هذه الغزوة في أيام الحر حين طابت الثمار وصار المنافقون يحبون الدنيا على الآخرة، فتخلف المنافقون عن هذه الغزوة ولجأوا إلى الظل والرطب والتمر، وبعدت عليهم الشُّقة والعياذ بالله، كما أخبر الله سبحانه في القرآن وكما في هذا الحديث. أما المؤمنون الخلص، فإنهم خرجوا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يُضعف عزمهم بعد المسافة ولا طيب الثمار. إلا أن كعب بن مالك رضي الله عنه تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر، وهو من المؤمنين الخلص، ولهذا قال: "إنه ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة غزاها قط، كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم قد شارك فيها كعب رضي الله عنه فهو من المجاهدين في سبيل الله، إلا في غزوة بدر، فقد تخلف فيها كعب وغيره، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- خرج من المدينة لا يريد القتال، ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا فقط؛ لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا إبلًا لقريش مُحملة قدمت من الشام تريد مكةَ وتَمُرُّ بالمدينة. ثم ذكر بَيعته النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في مِنى، قبل الهجرة، حيث بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقال: إنني لا أحب أن يكون لي بدلها شهود بدر؛ وإن كانت بدر أكثر ذكرًا، لأن الغزوة اشتهرت بخلاف البيعة. كان رضي الله عنه قوي البدن، ياسر الحال، حتى إنه كان عنده راحلتان في تلك الغزوة، وما جمع راحلتين في غزوة قبلها أبدًا، وقد استعد وتجهز رضي الله عنه وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها فيظهر خلاف ما يريد، وهذا من حكمته وحنكته في الحرب؛ لأنه لو أظهر ما يقصده تبين ذلك لعدوه، فربما يستعد له أكثر، وربما يذهب عن مكانه الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ إلا في غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرها ووضحها وجَلَّاها لأصحابه، وأخبر أنه خارج إلى تبوك إلى عدوٍّ كثير، وإلى مكان بعيد حتى يستعد الناس. فخرج المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف إلا من خذله الله بالنفاق، وثلاثة رجال فقط من المؤمنين، هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية رضي الله عنهم ، لكن تخلفوا لأمر أراده الله عز وجل أما غيرهم ممن تخلف فإنهم منافقون منغمسون في النفاق، نسأل الله العافية. فخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- بأصحابه وهم كثير، إلى جهة تبوك حتى نزل بها، ولكن الله تعالى لم يجمع بينه وبين عدوه، بل بقي عشرين يوماً في ذلك المكان، ثم انصرف بغير حرب. يقول كعب بن مالك رضي الله عنه إن الرسول صلى الله عليه وسلم تجهز هو والمسلمون وخرجوا من المدينة، أما هو رضي الله عنه فتأخر وجعل يغدو كل صباح يرحِّل راحلته ويقول: سوف ألحق بهم، ولكنه لا يفعل شيئًا، ثم يفعل كل يوم كذلك، حتى تمادى به الأمر ولم يدرك. يقول: فكان يحز في نفسه أنه إذا خرج إلى سوق المدينة، وإذا المدينة ليس فيها أحد من المهاجرين ولا الأنصار، وليس فيها إلا رجل مغموس في النفاق -والعياذ بالله- قد غمسه نفاقه فلم يخرج، أو رجل معذور عذره الله عز وجل. فكان يعتب على نفسه: كيف لا يبقى في المدينة إلا هؤلاء وأقعد معهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكره ولم يسأل عنه حتى وصل إلي تبوك. فبينما هو جالس وأصحابه في تبوك سأل عنه، فقال رسول الله: أين كعب بن مالك؟ فتكلم فيه رجل من بني سلمة وغمزه، ولكن دافع عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجب بشيء، لا على الذي غمزه ولا على الذي رد. فبينما هو كذلك إذ رأى رجلا لابسا البياض يتحرك به السراب من بعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة الأنصاري" فكان أبا خيثمة، وهذا معناه الفراسة والتمني أن يصبح هذا القادم من بعيد هو أبو خيثمة. وأبو خثيمة هذا هو الذي تصدق بصاع عندما حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فتصدق الناس كل بحسب حاله. فكان الرجل إذا جاء بالصدقة الكثيرة قال المنافقون: هذا مُراءٍ ما أكثر الصدقة ابتغاء وجه الله، وإذا جاء الرجل الفقير بالصدقة اليسيرة قالوا: إن الله غَنِيٌّ عن صاعِ هذا. يقول رضي الله عنه : إنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع قافلًا من الغزو، بدأ يفكر ماذا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع؟ يريد أن يتحدث بحديث وإن كان تورية، من أجل أن يعذره النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه : فلما بلغه قرب النبي صلى الله عليه وسلم زال عنه الباطل، وعزم على أن يبين للنبي صلى الله عليه وسلم الحق، يقول: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد عليه الصلاة والسلام. فدخل المسجد وصلى وجلس للناس فجاءه المخلفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفر لهم؛ ولكن ذلك لا يفيدهم والعياذ بالله؛ لأن الله تعالى قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: من الآية80)، فيقول: أما أنا فعزمت أن أصدق النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخبره بالصدق، فدخلت المسجد فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب ثم قال: "تعال" فلما دنوت منه قال لي: "ما خلفك؟". فقال رضي الله عنه : يا رسول الله إني لم أتخلف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيت جدلًا- يعني لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه لأن الله أعطاني جدلًا- ولكني لا أحدثك اليوم حديثا ترضى به عني فيوشك أن يسخطك الله علي في ذلك. فصدقه القول وأخبره أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما هذا فقد صدق" ويكفي له فخرًا أن وصفه النبي -عليه الصلاة والسلام- بالصدق: "أما هذا فقد صدق، فاذهب حتى يقضي الله فيك ما شاء". فذهب الرجل مستسلمًا لأمر الله عز وجل مؤمناً بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فلحقه قوم من بني سلمة من قومه وجعلوا يزينون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تذنب ذنبًا قبل هذا، ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا استغفر لك الرسول صلى الله عليه وسلم غفر الله لك، فارجع كذب نفسك، قل إني معذور، حتى يستغفر لك الرسول -عليه الصلاة والسلام- فيمن استغفر لهم ممن جاؤوا يعتذرون إليه، فهم أن يفعل- رضي الله عنه- ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلى في كتاب الله إلى يوم القيامة. فسال قومه: هل أحد صنع مثلما صنعت؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك، قال: فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا لي فيهما أسوة. فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يكلموهم. فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذهلوا، وتنكرت لهم الأرض فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلموا لا يرد عليهم السلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام. وحتى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقاً لا يسلم عليهم. يقول كعب: كنت أحضر وأسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري: أحرك شفتيه برد السلام أم لا. فضاقت عليهم الأرض وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقوا على هذه الحال مدة خمسين يوما والناس قد هجروهم فلا يسلمون عليهم، ولا يردون السلام إذا سلموا. فضاقت عليهم الأمور وصعبت عليهم الأحوال، وفروا إلى الله عز وجل ، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة. فكان يحضر ويسلم على النبي -عليه الصلاة والسلام- ولكن في آخر الأمر ربما يتخلف عن الصلوات؛ لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجل أن يأتي إلى قوم يصلي معهم وهم لا يكلمونه أبدًا، لا بكلمة طيبة ولا بكلمة تأنيب. قال: "فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان"؛ لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في الأسواق، والناس قد هجروهم لا يلتفت إليهم أحد، ولا يسلم عليهم أحد، وإذا سلموا لا يرد عليهم السلام، فعجزوا عن تحمل هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان. يقول: وكنت أنا أقواهم وأصبرهم لأنه كان أصغرهم سنا؛ فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجرهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم أطوع الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول: كنت أصلي وأسارق النبي صلى الله عليه وسلم النظر، يعني: أنظر إليه أحيانًا وأنا أصلي، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت إليه أعرض عني، كل هذا من شدة الهجر. يقول: "فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة وطال علي جفوة الناس، تسورت حائطًا –أي: دخله من فوق الجدار- لأبي قتادة رضي الله عنه ، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام"، وهو ابن عمه وأحب الناس إليه، ومع ذلك لم يرد عليه السلام، كل هذا طاعة لله ورسوله. فقال له: أنشدك الله، هل تعلم أني احب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه. مرتين يناشده وأبو قتادة لم يرد عليه، وهو يعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله. فلما رد عليه الثالثة وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. لم يكلمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا. يقول: فبكى ثم خرج إلى السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نبطي من أنباط الشام يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتباً؛ لأن الكتاب في ذلك العهد قليلون جدًّا. يقول: "فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك -يعني الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك: ملك غسان كافرًا- وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة، فتعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا. ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالى ورسوله، ومحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال: هذا أيضا من البلاء، ثم ذهب إلى التنور فأحرقها. ولما تمت لهم أربعون ليلة وأبطأ الوحي فلم ينزل أرسل إليهم النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوا نساءهم. فقال كعب: أطلقها أم ماذا؟ لأنه لو قال طلِّقها لطلقها بكل سهولة؛ طاعة لله ورسوله، فسأل فقال: أطلقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يأمرك أن تعتزل أهلك. وبقي على ظاهر اللفظ. فقال كعب لزوجته الحقي بأهلك حتى يقضي الله هذا الأمر. فلحقت بأهلها. وجاءت زوجة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأنه في حاجة إليها لتخدمه؛ لأنه ليس له خادم، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بشرط أن لا يقربها، فقالت: "إنه والله ما به من حركة إلي شيء" يعني أنه ليس له شهوة في النساء، وأنه يبكي رضي الله عنه منذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرهم إلي يومه هذا، أربعون يومًا يبكي؛ لأنه ما يدري ماذا ستكون النهاية. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته، وأنا رجل شاب! فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نُهِيَ عن كلامنا. يقول: "وكنت ذات يوم أصلي الصبح على سطح بيت من بيوتنا، فسمعت صارخًا يقول وهو على سَلْع -وهو جبل معروف في المدينة- أوفى عليه وصاح بأعلى صوته يقول: "يا كعب بن مالك أبشر"، يقول: "فخررت ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء فرج"، وركب فارس من المسجد يؤم بيت كعب بن مالك ليبشره، وذهب مبشرون إلى هلال بن أمية ومرارة بن الربيع يبشرونهما بتوبة الله عليهما. يقول: فجاء الصارخ الماشي على قدميه، وجاء صاحب الفرس، فكانت البشرى للصارخ؛ لأن الصوت أسرع من الفرس، يقول: فأعطيته ثوبي الإزار والرداء، وليس يملك غيرهما، لكن استعار من أهله أو من جيرانه ثوبين فلبسهما، وأعطى ثوبيه للذي بشره. ثم نزل متوجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته على هؤلاء الثلاثة. يقول: فذهبت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أقصده، فجعل الناس يلاقونني أفواجًا يهنئونني بتوبة الله عليَّ حتى دخلت المسجد. يقول: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه، فقام إلي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فصافحني وهنأني بتوبة الله عليَّ. يقول: والله ما قام إلي أحد من المهاجرين رجل غير طلحة، فكان لا ينساها له. حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا وجهه يبرق؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- سره أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا الله ورسوله، وأخبروا بالصدق عن إيمان، وحصل عليهم ما جرى من الأمر العظيم، من هجر الناس لهم خمسين يومًا، حتى نسائهم بعد الأربعين أَمَرَ الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوهن. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك". فقال له: "أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا بل من عند الله عز وجل"؛ لأنه إذا كان من عند الله كان أشرف وأفضل وأعظم. فقال كعب: إن من توبته أن يتخلى عن ماله، ويجعله صدقة لله تعالى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك". قال: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. ثم ذكر كعب بن مالك أن من توبته أن لا يحدث بحديث كذب بعد إذ نجاه الله تعالى بالصدق، وما زال كذلك ما حدث بحديث كذب أبدًا بعد أن تاب الله عليه، فكان رضي الله عنه مضرب المثل في الصدق، حتى إن الله أنزل فيه وفي صاحبيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119). وأنزل الله تعالى الآيات في بيان منته عليهم بالتوبة من قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} (التوبة: 117: 119). قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط، بعد إذ هداني الله للإسلام، أعظم في نفسي، من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شر ما قال لأحد، قال سبحانه : {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ رِجْسٌ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]، قال: كنا خُلِّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حَلَفوا له، فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَنَا حتى قضى الله فيه بذلك، قال الله عز وجل: وعلى الثلاثة الذين خلفوا، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفْنا، تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا، عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه". وذكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج في يوم الخميس. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى المدينة ضحى، وأنه دخل المسجد فصلى فيه ركعتين، وكان هذا من سنته صلى الله عليه وسلم أنه إذا قدم بلده لم يبدأ بشيء قبل المسجد.